إن من طبيعة هذه الدنيا التي نعيش فيها أنها دار أدواء وشدائد وضنك، فلا يوجد عليها أي مرتاح راحة تامة من غير ضيق كما لا يوجد من هو سعيد سعادة دائمة لا يعكر صفوها معكر منذ وجوده حتى مماته.. وجميعاً يعلم أن ما في الجنة من نعيم أنه نعيم كامل، لهذا لم يجعل الله في هذه الحياة الدنيا راحة تامة بلا هموم، ليبتلي بالهموم والأكدار عباده فيكافئهم بدارٍ لا فيها نصب ولا همّ ولا كدر، يقول ربنا عز وجل واصفاً حال أهل الجنة في الجنة: {لا يَمَسُّهُمْ فيها نَصَبٌ ومَا هُمْ عَنْهَا بمُخرَجين} [الحجر:48].
كما أنها حكمة إلهية ليتعرف السعيد والهانئ في دنياه بمعنى هذه الراحة، إذ لا يستطيع الغني فَهْمَ نعمة المال إلا بعد أن يذوق مرارة الحرمان والفقر، فذلك الأمر نفسه بالنسبة لعبدٍ أهمَّه ربه بِهمّ ٍ.
إن السُنة الربانية لحالة العبد في هذه الحياة الدنيا قد قررها الله عز وجل فقال سبحانه: {لقَد خَلَقنَا الإنسَانَ فِي كَبَد} [البلد:4] أي في مشقة وعناء وتعب في دنياه، وقال سبحانه: {والقَمَرِ إذا اَتسَق لتَركَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَق} [الانشقاق:18] أي حالة بعد حالة، سعادة بعد شقاء أو شقاء بعد سعادة، فأصبح هذا معلوم لدينا بالضرورة جميعاً كمؤمنين بأن حقيقة الحياة الدنيا هي تقلُّب الأوضاع وتغير الأحوال، ثم إنَّ أيَّ أمر مكروه قد يحلّ بالقلب، إما أنْ يكون من أمر ماضٍ فيُحْدِث حزناً أو من أمر حاضرٍ فيُحدِث غمّاً أو من أمر مستقبلٍ فيُحدِث همَّاً، ولعلي هنا أورد لك معنى الهموم بإعتبارها المحور الرئيس لحديثنا هذا:
[] الهموم في اللغة:
جمع همّ، ويقال: أهمَّ الأمر فلاناً: أقلقه وأحزنه، يقال: أهمَّه الأمر حتى همَّهُ، أي أحزنه حتى أذابه -المنجد في اللغة والأعلام.
عندما يكبر الإنسان..تكبر همومه..تتزايد المسؤوليات..تتصاعد..تتراكم..وقد يصبح تارة مسرور وتارة منهزم وتارة بل تارات مهموم محزون ..وقد يكون الهمّ شعوراً يلازم الإنسان لفترات وفترات.. نتيجة أسباب عديدة..
وإن الهموم قد تكون نتيجة صراعات مختلفة ومواقف عديدة تُنتج ما يسمى في نهايته همّ، ولقد يصبح الهمّ في لحظة وسادة يتوسد عليها الإنسان حتى يحكم على نفسه بالمهموم..
والقلوب تختلف وتتفاوت في نصيبها من الهموم والأحزان والغموم بحسب إيمانها وصلاحها.
كما أنها تختلف في طرق توجيهها للهموم، وكيفية التعامل معها بحسب إدراكها لحقيقة الهموم وفَهمها لهذا الشعور، فلْنتعرف على طرق التعامل مع الهموم، لعلنا نقطع شوطاً من مشوار حياتنا ونحن على بصيرة بهذا الشعور والتعامل معه بشكل صحيح.
[] كيف تتعاملين مع همومك؟!
1= الرضا بقضاء الله وقدره:
قال تعالى:{إنَّا كُلَّ شَئٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمرُنا إِلاَّ وَاحِدَةًٌ كَلَمحٍ بِالبَصَرِ} [القمر:49].
إعلمي رحمني الله وإياك.. أن العبد على الحقيقة من إذا أصابه قدرٌ وَجَدَ مِن قلبه ناطقاً يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر بي إن لم تصبِّرني، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوِّني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا إنصراف لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك، فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه فإن أصابه بما يكره، قال: رحمة أَهْدَيتَ إليَّ أو دواءٌ نافعٌ من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شراً صُرف عني، فكل ما مسه به من السراء والضراء إهتدى بها طريقاً إليه، وإنفتح له معه باب يدخل منه عليه -قاله ابن القيم بتصرف.
وإعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وهذه سياسة نبوية للتعامل مع همومك بالإيمان بالقضاء والقدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«احرص على ما ينفعك وإستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم.
فكل ما تمتلئ به الأيام من أحداث، وكل ما يجري في الساعات من أحوال، فلا ردّ للمؤمن عليه إلا بـ «قدَّر الله وما شاء فعل» فكل شئ بقدر، وكل أمرٍ يحلّ بك فهو بأمرٍ من ربِّ البشر، فاللهم لا إعتراض.
وهنا يضرب لنا أحد الصالحين المؤمنين بالقضاء والقدر مثالاً رائعاً في مواجهة الهمّ الذي أهمه بعد تسليمه بقضاء ربه..قال أهل السير كان من الفقهاء عروة بن الزبير دعاه خليفة المسلمين الوليد بن عبد الملك لزيارته في دمشق، فلبَّى دعوته، وصحب معه أكبر بنيه، ثم شاء الله أن ابن عروة دخل على إصطبل -مربط الخيل- الوليد ليتفرج على جياده الصافنات فرمحته -رفسته- دابة رمحة قاضية أودت بحياته، ولم يكدْ الأب المفجوع ينفض يديه من تراب قبر ولده، حتى أصابت إحدى قدميه الآكلة -داء يصيب العضو فيأتكل منه- فتورمت ساقه، وجعل الورم يشتد ويمتد بسرعة مذهلة، فأجمع المعالجين على أنه لا مندوحة من بتر ساق عروة قبل أن يسري الورم إلى جسده كله، فعندما همُّوا بقطع ساقه قالوا: نسقيك جرعة من مُسْكِر لكيلا تشعر بآلام البتر المبرحة، فقال: هيهات..لا أستعين بحرام على ما أرجوه من العافية، فقالوا: إذن نسقيك المُخَدِّر، لأنه لا يُسْكِنُ عقله عن الوعي إلا المخدر فقال: سبحان الله أأفقد عقلي بعد أن رزقني الله عقلاً؟! كلا ولكن إقطعوا رجلي فإني لن أشعر إن شاء الله.. =وهنا إستوقفني حال كثير من الناس ممن يسافر للخمر وينتقل من أجل المخدر ويضيع حياته من أجل المسكر وهذا يُعرض عليه المسكر في زمن لم يوجد به بنج ولا طب متقدم، ولكن بمنشار تنشر قدمه كما تنشر الشجرة فلا يقبل به أبداً ولو َقِبلَ لجاز له، لأن القاعدة الشرعية تقول: الضرورات تبيح المحظورات.. فسبحان الله= فتوضأ ودخل في الصلاة وناجى الله، فبدؤوا في قطع رجله لأنها كانت قد أصيبت بمرض خطير كما ذكرنا.. فلما زاره إخوانه فقالوا معزين له: أحسن الله عزاءك في رجلك يا عروة، إنها مصائب وهمّ وأحزان ولكن إيمان كالجبال -قال: اللهم إن كنت أخذت فقد أعطيت وإن كنت إبتليت فقد عافيت..اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى -صور من حياة التابعين، بتصرف.
2= التحرر من قيود المعاصي:
إعلمي رحمني الله وإياك أن معصية واحدة كفيلة لأن تخسري بها راحة بالك وهناء خاطرك..فلا تتجرئي على ربك بمعصية ولا تصرّين على ذنب، ولو لم تري أثر العقوبة أمام عينيك، قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: يا من فعل المعصية ولم يرى أثرها أتظن أن الله ناسيها هي لك في الطريق لك بالمرصاد تنتظرك.. {عِلمُهَا عِندَ رَبي لا يَضِلُّ رَبِي وَلا يَنسَى} [طه:52].
قد تظن ظانّة بأنها عند معصيتها أنها سترى العقوبة ظاهرة أمامها بقطع يدها أو تحطيم بيتها أو ما إلى ذلك، لكن بالطبع لا فإن عذاب قلبك وتشتت فكرك وإستيلاء همَّك عليك هو أثقل وأشدُّ من عذاب جوارحك، فضنك وشقاء وضيق ونكد وكدر وهمّ وغمّ وإنتكاسة وتعاسة والكثير من العقوبات المعنوية الأليمة، غير ما ينتظرها من بؤس في آخرتها ما لم تتب وترجع إلى ربها.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: قال حبر من بني إسرائيل: يا رب كم أعصاك وأنت تمهلني ما عذبتني، فأوحى الله إلى نبي من بني إسرائيل أن قل لذاك الحبر: لقد عاقبته بعقوبة لا يوجد أثقل منها ولكنه لا يدري..أما سلبته حلاوة مناجاتي ولذة طاعتي؟!
فكثيرٌ هُمْ المسلوبون للذة الطاعة وحلاوة القرب من الله فهؤلاء ظنَّوا بأن معاصيهم لا تضرهم هاهي المسرفة بالمعصية على نفسها نجدها تستأنس بالأغنية أو بالمجلة أو التلفاز أو بالرقص أو بالسمر والسهر أو فيما فيه خسران للوقت وفوات للعمر بلا فائدة..لكن ما حالها إذا دُعيت إلى درس ذكر تَحُفُّه ملائكة الجبَّار تشريفاً وتعظيماً للذاكرين أو جلسة يُذكر فيها اسم الله، نجد صدرها ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، قال سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وحدَه اشمَأزّت قُلُوبُ الذِينَ َلا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الذِينَ مِن دُونِه إِذَا هُم يَستَبشِرُون} [الزمر:45] لقد حُرمت هذه وأمثالها لذة حلاوة الذكر فهي ضائقة الصدر ومحرومة من الأجر، وغيرها تُرفع لها الحسنات وتستغفر لها الملائكة وتُغفر لها الذنوب وهي في ضلال وغفلة من معصية لأخرى، فكلُ ضالٍّ بمعصيته لاشك أنه إنسان ضائق الصدر مهموم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ أن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] فيارب غفرانك..
ومن يعش على هذا الحال فليعلم أن في المعصية قيد يقيِّد العبد فيصبح مكبَّلاً لا يهنأ بعيش ولا يستلذُّ بيوم لا يكاد ينشرح صدره إلا وسرعان ما يضيق ولا تكاد تبتسم شفتاه إلا وتسكن ولا تكاد قسمات وجهه تتهلل فرحاً وسروراً إلا وتنطفئ بالعبوس، ففرحه كسحابة صيف وومضة طيف ولن يتحرر ذلك العبد من تلك القيود إلا بترك الذنوب ومحاولة التحرر منها بالتوبة والرجوع والصدق في التصحيح فيما بينه وبين ربه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، أخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص فعرضت لي هذه الآية: {ومنْ يتقِ الله يَجْعَلْ له مَخْرَجاً} [الطلاق:2] فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج.. اهـ.
الكاتب: بلقيس صالح الغامدي.
المصدر: موقع رسالة المرأة.